المجزوءة
الثانية: المعرفة
المفهوم الثاني
: الحقيقة
المحور الثالث :
الحقيقة كقيمة
الإطار الإشكالي
للمحور:
تطلق القيمة على كل ما هو جدير باهتمام المرء
وعنايته، وقيمة الشيء من الناحية الذاتية هي الصفة التي تجعل ذلك الشيء مطلوبا ومرغوبا
فيه... أما من الناحية الموضوعية فتطلق على ما يتميز به الشيء من صفات تجعله مستحقا
للتقدير. فالحديث عن قيمة الحقيقة إذن يتعلق أساسا بخصائص تتميز بها الأفكار وتجعلنا
نهتم بها ونرغب فيها. من هنا يحق لنا التساؤل: ما الذي يجعلنا نرغب في الحقيقة؟ وأين
تكمن قيمتها بالنسبة لنا؟ هل لها قيمة في ذاتها أم أنها مجرد وسيلة لإشباع حاجات أخرى؟
وهل للحقيقة قيمة أخلاقية سامية ومطلقة أم قيمة نفعية نسبية؟
1- موقف
ويليام جيمس: الحقيقة مجرد وسيلة لتحقيق المنفعة :
يرى وليام جيمس أن
قيمة الحقيقة لا تكمن في ذاتها ، وإنما في
مطابقتها للواقع، أي في ما تحققه من مصلحة ومنفعة فكرية أو مادية، ولا وجود لأية حقيقة
متعالية ومعزولة عن مصالح الناس ورغباتهم، فهي مجرد وسيلة مرتبطة بطبيعة الحياة البشرية
في تغيرها وصيرورتها، نستعملها من أجل بلوغ منافع واقعية عملية قابلة للقياس، يقول
جيمس: "الحقيقة هي حدث يتم إنتاجه من أجل فكرة ما"، فالحياة هي الأصل الذي
يتحكم في كل فعل أو فكر إنساني، وبالتالي فهي تتحكم في الحقيقة بدورها وليس العكس،
ذلك أن "امتلاك أفكار صحيحة صادقة يعني على وجه الدقة امتلاك أدوات ثمينة للعمل"،
وكل ما لا يقبل التحقق وفق مبدأ "المصلحة فوق كل اعتبار" لا يصح أن نعيره
أي اهتمام، لأنها حيث ما كانت المصلحة العملية فثمة الحقيقة، لذلك وكما نُنتج الأشياء
لننتفع بها في حياتنا فإننا ننتج الحقائق والأفكار لأنها نافعة، ويُلخص ذلك بقوله:
"الحقيقي هو المفيد".
2- موقف
ايمانويل كانط: الحقيقة واجب أخلاقي:
على النقيض تماما لما سبق يرى ايمانويل كانط
أن : "قول الحقيقة أمرا واجبا أخلاقيا... بعيدا عن أية اعتبارات تتعلق بسياقات
تطبيقه"، أي أنه من الواجب على الفرد مثلما على الجماعة والإنسانية جمعاء الامتثال
لصوت الواجب الأخلاقي كالتزام كوني مطلق يفرضه
العقل ويتعالى عن ميولاتنا وحاجاتنا وظروفنا ومصالحنا، يقول كانت: "الحقيقة واجب
مطلق يسري في جميع الظروف والمناسبات". ومادامت الحقيقة غاية وليست وسيلة، فلا
يجوز مثلا الكذب حتى ولو كان فيه عِتق رقبتنا من الموت، يقول كانط: "إن مَن يكذب
مهما كانت نيته ومقاصده، يتعين أن يتحمل ويتقبل نتائج وتبعات كذبه، وأن يؤدي ثمن موقفه
كيفما كانت النتائج"، فإذا كان الكذب قد يحقق مصلحة ذاتية فإنه مفسدة للإنسانية
جمعاء لأنه انتهاك لحق الصدق وحق الاحترام الكونيين، وإذا ما أخضعنا الحقائق لمزاجنا
وأهوائنا فإن هذه الحقائق ستفقد معناها وقدسيتها وتنتقل من حكم الواجب المطلق إلى حكم
المباح، بل ستصير مبتذلة وغير محترمة.
خلاصة تركيبية:
يتضح مما سبق أن الحقيقة تتأرجح بين تصورين
متناقضين، الأول يرى أن الحقيقة غاية في ذاتها ، وقول صدق واجب على كل شخص (كانط).
بينما الثاني يرى أن الحقيقة مجرد وسيلة الهدف منها تحقيق المنفعة والمصلحة(جيمس)
فالحقيقي هو المفيد والصالح.
إرسال تعليق